المحكمة الجنائية الدولية: بين الانضمام والانسحاب

This article is not available in English, but the Arabic version is available

نجح المجتمع الدولي، في العقد الأخير من القرن الفائت، بتأسيس المحكمة الجنائية الدولية، واختيرت مدينة لاهاي الهولندية مقرا لهذه المحكمة. ودخل نظامها حيز النفاذ في 1/7/2002. وتم أول انتخاب لقضاتها وعددهم 18 قاضيا، في 12/2/2003. أما المدعي العام الحالي للمحكمة فهو السيدة (فاتو بنسودا) من (غامبيا) التي باشرت مهامها في 15/6/2012.

أولا
الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية

صادقت حتى تاريخ 25/10/2016، 124 دولة على نظام المحكمة الجنائية الدولية. أما الدول العربية الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية فهي حسب تاريخ انضمامها للمحكمة: الأردن (11/4/2002)، وجيبوتي (5/11/2002)، وجزر القمر (1/11/2006)، وتونس (24/6/2011)، وفلسطين (2/1/2015).

ثانيا

اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية

اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، على ثلاثة أنواع:

  1. اختصاص موضوعي: يتعلق بالجرائم التالية:
    • أ) جرائم إبادة الأجناس؛
    • ب) الجرائم ضد الإنسانية؛
    • ج) جرائم الحرب؛
    • د) جريمة العدوان.
  2. اختصاص زماني: يسمح للمحكمة الجنائية بالنظر في هذه الجرائم والتي يتم ارتكابها بعد دخول نظامها حيز النفاذ، وفي حق الدول التي أصبحت طرفا فيه.
  3. اختصاص شخصي: تنظر المحكمة الجنائية في الجرائم التي يرتكبها الأفراد بعد بلوغهم سن الثامنة عشرة من العمر وبعد دخول نظامها حيز النفاذ في حق دولهم.1

ثالثا
الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية

يجب أن نذكر بداية بالمادة 127 من نظام المحكمة الجنائية الدولية المتعلقة بالانسحاب من هذه المحكمة، والتي تنص على ما يلي: "1- لأية دولة طرف أن تنسحب من هذا النظام الأساسي بموجب إخطار كتابي يوجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ويصبح هذا الانسحاب نافذاً بعد سنة واحدة من تاريخ تسلم الإخطار، مالم يحدد الإخطار تاريخاً لاحقاً لذلك.

2- لا تعفى الدولة، بسبب انسحابها، من الالتزامات التي نشأت عن هذا النظام الأساسي أثناء كونها طرفاً فيه، بما في ذلك أي التزامات مالية قد تكون مستحقة عليها، ولا يؤثر انسحاب الدولة على أي تعاون مع المحكمة فيما يتصل بالتحقيقات والإجراءات الجنائية التي كان على الدولة المنسحبة واجب التعاون بشأنها والتي كانت قد بدأت في التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذاً، ولا يمس على أي نحو مواصلة النظر في أي مسألة كانت قيد نظر المحكمة بالفعل قبل التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذاً".

وأبدت حتى الآن ثلاث دول أفريقيا رغبتها بالانسحاب من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وبدأ بعضها عمليا الإجراءات المتعلقة بهذا الانسحاب، وهذه الدول هي:

1- جمهورية بروندي: صوت البرلمان في جمهورية بروندي، بأغلبية الأصوات، وبتاريخ 12/10/2016، على مشروع قانون يسمح بالانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية. واعتمد بدوره مجلس الشيوخ في بروندي، وبالإجماع، هذا المشروع. وقام رئيس الجمهورية، من جهته بإصدار هذا القانون 2. وقد سبق وصادقت بروندي على نظام المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 21/9/2004.3

ولكن لم تتبع، حتى الآن، هذه الخطوات الوطنية التي قامت بها جمهورية بروندي خطوات أخرى تعّزز موقفها بخصوص الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية. فلم توجه "إخطار كتابي" للأمين العام للأمم المتحدة حسب ما تنص عليه الفقرة الأولى من المادة 127 من نظام المحكمة. مما يعني بأن المحكمة تمارس اختصاصاتها فيما يتعلق بالجرائم التي يمكن أن تُرتكب في جمهورية بروندي طالما بأنه لم يتم بعد إخطار هذا الأمين العام بانسحابها من المحكمة، هذا من ناحية.

ولا يجب أن يغيب عن الأذهان، من ناحية ثانية، وهو أمر جد هام، ما تنص عليه الفقرة 2 من المادة 127 من نظام المحكمة الجنائية الدولية، والمتعلقة بثلاثة أنواع من الالتزامات في حال الانسحاب من نظام المحكمة، وهي:

  1. إن الدولة التي تختار أن تنسحب من هذا النظام لا تعفى "من الالتزامات التي نشأت عن هذا النظام الأساسي أثناء كونها طرفاً فيه"؛
  2. تبقى هذه الدولة مرتبطة، من طرف آخر، بأي "التزامات مالية قد تكون مستحقة عليها"؛
  3. لا يجب أن يؤثر انسحاب الدولة "على أي تعاون مع المحكمة فيما يتصل بالتحقيقات والإجراءات الجنائية التي كان على الدولة المنسحبة واجب التعاون بشأنها والتي كانت قد بدأت في التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذاً، ولا يمس على أي نحو مواصلة النظر في أي مسألة كانت قيد نظر المحكمة بالفعل قبل التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذاً".

ونذكر بخصوص هذا الالتزام الثالث بأن المدعي العام للمحكمة السيدة (فاتو بنسودا) قد بدأت مرحلة التحقيقات الأولية بتاريخ 25/4/2016، بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في جمهورية بروندي نتيجة أعمال العنف التي اندلعت بعد أن أعلن رئيس الجمهورية ترشحه لولاية ثالثة في الشهر الرابع من عام 2016. وأشارت الأنباء بأنه نتج عن هذه الانتهاكات مقتل أكثر من 430 شخص، وتوقيف 3400 شخص، واضطر 230.000 بروندي للجوء للبلدان المجاورة .4

وأوضح، في المقابل، المدعي العام بأن هذه التحقيقات لا تُعّد في أية حال تحقيق ولكن إجراء لدراسة المعلومات المتوافرة بخصوص الأحداث التي وقعت، ولتبيان وجود مبررات معقولة لفتح تحقيقات.5

وينتج، وتبعا أيضا عن هذا الالتزام، بأن على بروندي أن تتعاون مع المحكمة الجنائية ولو أنه لا توجد مؤشرات واضحة تدل على رغبة الحكومة البروندية بالتعاون في هذا الخصوص نظرا لعدم استقبالها للجنة خبراء من الأمم المتحدة، ولوقفها التعاون مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان.6

2- جنوب أفريقيا: انضمت جنوب أفريقيا للمحكمة الجنائية الدولية في 27/11/2000. ونشرت مؤخرا وسائل الإعلام خبر توقيع وزير خارجية جنوب أفريقيا "وثيقة طلب الانسحاب" من هذه المحكمة الجنائية.7

ولا يمكن اعتبار هذا الموقف، حتى الآن، انسحابا رسميا من نظام المحكمة الجنائية الدولية، بل يجب اتخاذ الإجراءات المتعلقة بشروط الانسحاب التي بينتا المادة 127 من هذا النظام، وهو ما شرحناه آنفا.

ولكن توالت ردود الفعل لرغبة جنوب أفريقيا بالانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، كثير منها مستنكر، وبعضها يتفهم هذا الموقف. ومن بين المنظمات غير الحكومية الدولية التي انتقدت مساعي جنوب أفريقيا للانسحاب من هذه المحكمة، منظمة (هيومن رايتس ووتش) التي اعتبرت هذا الانسحاب لو تم فسيكون ضربة موجعة لالتزامات جنوب أفريقيا في مجال العدالة الجنائية).8

كما انتقدت مجموعة من القانونيين مساعي حكومة جنوب أفريقيا للانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية. ونجد من بين هؤلاء القانونيين القاضي السابق في المحكمة الدستورية لجنوب أفريقيا (ريتشارد غولدستون) والذي سبق وكان المدعي العام الأول للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة وللمحكمة الدولية من أجل روندا.9

3- غامبيا: تناولت وسائل الإعلام مؤخرا خبر إعلان الحكومة الغامبية، وبتاريخ 25/10/2016، قرارها بالانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، وسبق أن صادقت غامبيا على نظام هذه المحكمة بتاريخ 28/6/2002.

وأوضح من جهته رئيس وزراء غامبيا مبررات رغبة انسحاب هذه الدولة الأفريقية من المحكمة الجنائية، كون هذه الأخيرة تتجاهل "جرائم الحرب" التي ترتكبها البلدان الأوروبية وأن المحكمة لا تلاحق إلا الدول الأفريقية. وسبق لهذا الرئيس أن طالب المحكمة بالتحقيق بموت المهاجرين الأفارقة في البحر الأبيض المتوسط.10

كما وجهت في هذا السياق مجموعة من الدول الأفريقية انتقادات لهذه المحكمة موضحة بأن تسعة من التحقيقات التي فتحتها المحكمة من أصل عشرة يجري العمل عليها، تخص بلدان أفريقية.

الخاتمة

هل يمكن اعتبار سعى بعض الدول الأطراف للانسحاب من نظام المحكمة الجنائية الدولية بداية إخفاق هذه المحكمة في تحقيق الأهداف التي أسست من أجلها، أو عدم قدرتها على التأقلم مع الأوضاع الدولية وتقلب العلاقات بين الدول؟

من الجدير بالذكر بأن الدول التي أعلنت انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية كانت من الدول السباقة للتصديق على نظامها والانضمام إليه، مما يعني بأنها كانت مؤمنة بفكرة تأسيس هذه المحكمة، ومتحمسة للتعاون معها، ولكن ما الذي دفعها الآن للانسحاب منها؟

لا يجب أن يغيب عن الأذهان بأن محاولات الانسحاب من هذا النظام، سبقها فشل المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة من أصدرت بحقهم مذكرات توقيف، وقليل هم من نجحت المحكمة بمحاكمتهم وأدانتهم وكان آخرهم (أحمد الفقي المهدي) الذي أدانته الدائرة الابتدائية الثامنة في هذه المحكمة وبتاريخ 27 /9/2016، وبالإجماع كونه مذنبا واعتبرته شريكاً في ارتكاب جريمة الحرب نتيجة للهجمات التي وقعت ضد 10 مبان ذات طابع ديني وتاريخي في مدينة (تمبكتو) بمالي ما بين 30/6 إلى 11/7/2012، وصدر الحكم بحقه بالسجن تسع سنوات11، هذا من ناحية.

كما لا يجب، من ناحية ثانية، إغفال الاعتراضات التي تصدرها الدول الأفريقية وما يبدو لبعضها بأن هذه المحكمة تركز على القارة الأفريقية دون غيرها. وبالفعل توجد تسع تحقيقات للمحكمة الجنائية الدولية تخص عدة دول أفريقية، وهي: أوغندا، وأفريقيا الوسطى، وجمهورية الكونغو، وساحل العاج، والسودان، ومالي، وكينيا، وليبيا. علما بأن مكتب المدعي العام يقوم أيضا بدراسات أولية فيما يخص أفغانستان، وأوكرانيا، وفلسطين، وكولومبيا، وبخصوص التدخل البريطاني في العراق، ودراسات بخصوص سفن مسجلة في كل من كمبوديا، واليونان، كما أنه يحقق في حالة في جورجيا12. مما يعني بأن الدول الأفريقية ليست المقصودة والمستهدفة بالدرجة الأولى من المحكمة الجنائية الدولية.

يبقى مستقبل المحكمة الجنائية الدولية رهين نجاح الدول بتنفيذ الالتزامات المنبثقة عن نظامها، وتلعب العلاقات الدولية، ومصالح الدول دورها الكبير والمؤثر في مستقبل هذه المحكمة وتحقيقها للأهداف التي أسست من أجلها ومن بينها تطبيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب.


الأستاذ الدكتور محمد أمين الميداني. رئيس المركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، فرنسا.



[1] انظر بخصوص اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، ترتيل درويش، الدولة وراء القضبان، جدلية مساءلة الدولة جنائيا على الصعيد الدولي، الطبعة الأولى، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2015، ص 194 وما بعدها.

[2] انظر: G. EYENGA, « CPI : le retrait de la République du Burundi du Statut de Rome, Sentinelle-droit-international »,

على الرابط: http://www.sentinelle-droit-international.fr/?q=content/cpi-le-retrait-de-la-r%C3%A9publique-du-burundi-du-statut-de-rome

[3] انظر موقع المحكمة الجنائية الدولية: https://asp.icc-cpi.int/FR_Menus/ASP/Pages/asp_home.aspx

[4] انظر تصريح المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بخصوص الأوضاع في بروندي: « Déclaration du Procureur de la Cour pénale internationale, Mme Fatou BENSOUDA, à propos de l’examen préliminaire entamé dans le cadre de la situation au Burundi », على الرابط: https://www.icc-cpi.int/Pages/item.aspx?name=otp-stat-25-04-2016&ln=fr

[5] انظر المرجع السابق.

[6] انظر: EYENGA.

[7] انظر موقع هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية: http://www.bbc.com/arabic/world/2016/10/161021_south_africa_war_court_withdraw

[8] انظر: https://www.hrw.org/fr/news/2016/10/24/afrique-du-sud-le-retrait-de-la-cpi-constitue-une-trahison-legard-des-victimes

[9] انظر، محمد أمين الميداني، "انتهاء ولاية محكمة جنائية دولية مؤقتة: محكمة رواندا نموذجا"، مجلة (تسامح)، منشورات مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان، العدد 52، آذار/مارس 2016، ص 110-122.

[10] انظر صحيفة اللوموند الفرنسية، تاريخ 26/10/2016، على الرابط: http://www.lemonde.fr/afrique/article/2016/10/26/le-gambie-veut-a-son-tour-sortir-de-la-cpi_5020376_3212.html

[11] انظر: "الدائرة الابتدائية الثامنة في المحكمة الجنائية الدولية تدين السيد المهدي بارتكاب جريمة الحرب المتمثلة في الهجوم على مبان تاريخية ودينية في تمبكتو وتحكم عليه بالسجن تسع سنوات"، على الرابط: https://www.icc-cpi.int//Pages/item.aspx?name=pr1242&ln=Arabic

[12] انظر: J.-B. JEANGENE VILMER, « L’Afrique et la Cour pénal internationale (1/2) : une justice de « Blancs » ? », Le Monde, 31/10/2016.

back